في أواخر الأسبوع الماضي، أنهت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها الأخيرة إلى لبنان، مشدّدةً في بيانها الختامي على أنّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي تبقى "أولويّة حاسمة لبناء الثقة في المصارف، والابتعاد عن الاقتصاد القائم على النقد الكاش". لم تكن هذه الإشارة تفصيلًا في البيان، طالما أنّ الوصول إلى الاتفاق النهائي بين لبنان والصندوق بات متوقّفًا على إقرار مشروع قانون إًصلاح أوضاع المصارف، الموجود في البرلمان، ثم إقرار مشروع قانون الانتظام المالي، الذي يُحضّر حاليًا في المطبخ الحكومي.
زيارة البعثة المقبلة ستكون في شهر أيلول. وبعثة الصندوق تعتبر أنّه من الواقعيّ ترقّب إقرار القانونين بحلول هذا الموعد، قبل الدخول في مرحلة التحضير للانتخابات النيابيّة، وما يرافقها من حذر سياسي إزاء الملفّات الحسّاسة. وحتّى ذلك الوقت، سيكون خبراء الصندوق بانتظار زيارة نوّاب حاكم مصرف لبنان إلى واشنطن، لبحث تفاصيل الملفّات النقديّة والمصرفيّة التي سيعمل عليها المصرف المركزي. بهذا المعنى، سيكون لبنان خلال الصيف أمام ثلاثة أشهر حاسمة. إذ إنّ تأخير مسار الإصلاحات المصرفيّة إلى ما بعد أيلول، سيرجّح تأجيل الاتفاق نفسه إلى ما بعد الانتخابات النيابيّة في أيّار المقبل.
أجواء إيجابيّة
كان بإمكان كل من قابل بعثة الصندوق أن يتلمّس النبرة الإيجابيّة في كلامها. فعلى مدى السنوات الماضية، اعتادت البعثة التورّط في الزيارات البروتوكوليّة إلى لبنان، والتي لم تشهد أي تقدّم جدّي، على مستوى الملفّات التي يجري النقاش بشأنها. كانت تجربة الصندوق مع لبنان مرّة منذ إسقاط خطّة لازارد عام 2020. وحتّى بعد عقد الاتفاق على مستوى الموظّفين عام 2022، لم يتم العمل جديًا على تنفيذ بنود هذه الاتفاق، باستثناء بعض الجهد الذي بذله نائب رئيس الحكومة يومها سعادة الشامي.
هذه المرّة كانت مختلفة، كما ينقل بعض من التقى مسؤولي الصندوق. في الزيارة الأخيرة الأسبوع الماضي، توسّع النقاش ليطال كل "العناصر المفاتيح" لبرنامج لبنان مع الصندوق: من الإصلاحات المصرفيّة إلى إعادة هيكلة الدين العام وصولًا إلى السياسة النقديّة ونظم مكافحة تبييض الأموال والمسائل المرتبطة بالحوكمة والشفافيّة. في كل مسار من هذه المسارات، كان ثمّة تقدّم وخطوات مُنجزة وملموسة من جانب فريق العمل الحكومي، كما كان ثمّة تصوّرات للخطوات المنتظرة. وهذا ما جعل زيارة بعثة الصندوق، وبخلاف الزيارات السابقة، جولة مفاوضات جديّة.
لم تقدّم البعثة لأي من المسؤولين جدول زمني واضح، بخصوص الوقت المنتظر قبل الانتقال إلى مرحلة الاتفاق النهائي. لبنان يعرف الشروط المطلوبة، وتوقيع الاتفاق رهن الامتثال لهذه الشروط. ومع ذلك، لا يغيب عن ذهن البعثة المرحلة الفاصلة ما بين أيلول وأيّار، التي قد يصعب خلالها التقدّم في الملفّات المصرفيّة الساخنة، ما يفرض تسريع وتيرة العمل بهذه الملفّات في الوقت الراهن. وبعد شهر أيلول، ستبقى المساحة قائمة للعمل في الملفّات البعيدة عن تأثير المزايدات الشعبويّة، والتي يمكن التقدّم بها بمعزل عن اقتراب موعد الانتخابات النيابيّة.
تتفادى بعثة الصندوق التعليق على كلام نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، بخصوص وجود بدائل للبنان عن الاتفاق مع صندوق النقد. في الكواليس السياسيّة الأميركيّة، ثمّة كلام كثير عن امتعاض إدارة ترامب من تصريح أورتاغوس المتسرّع، وغير المتناسق مع السياسة الخارجيّة الأميركيّة. بل وثمّة من يعتبره أحد الأسباب التي أفضت إلى إقصاء أورتاغوس من منصبها. ومع ذلك، تتحاشى بعثة الصندوق الخوض في مسألة داخليّة تتعلّق شكليًا ببلد عضو في الصندوق، بمعزل عن أهميّة هذا العضو ودوره في سياق المفاوضات مع لبنان.
قانون إصلاح أوضاع المصارف
كانت تفاصيل مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف حاضرة في مختلف لقاءات البعثة، خصوصًا أنّ هذا المشروع بات يمر بمرحلة حسّاسة جدًّا، بعد تشكيل لجنة نيابيّة فرعيّة لتعديله. في دفتر ملاحظات الصندوق الكثير من التحفّظات على مشروع القانون المطروح في المجلس، غير أنّها لا تلامس حد رفض الصيغة العامّة للمشروع.
تمتلك البعثة تحفّظاتها على تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا كما وردت في المشروع، إذ تفضّل عدم تمثيل مؤسّسة ضمان الودائع داخل الهيئة، طالما أنّ المصارف التجاريّة نفسها لا تزال تهيمن على مجلس إدارة المؤسّسة. كما تفضّل البعثة التعامل مع حسابات المودع داخل كل مصرف على حدة، بدلًا من احتساب جميع ودائعه داخل النظام المصرفي كحساب واحد. وفضلًا عن ذلك، لا ترى البعثة جدوى في فرض متطلبات إعادة الرسملة بالنسبة للمصارف، قبل احتساب خسائرها من التوظيفات لدى مصرف لبنان.
سيكون أمام اللجنة الفرعية فرصة لإدخال التعديلات على مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، بالاستناد إلى ملاحظات بعثة صندوق النقد، وفي ضوء النقاشات الجارية داخل الهيئة بين ممثلي مصرف لبنان والوفد الحكومي. إلا أنّ أكبر التحديات ستكون منتظرة عند صياغة قانون الانتظام المالي، الذي سيحدد أصول التعامل مع فجوة الخسائر المصرفيّة، وهو ما يرتبط بمصير الودائع والرساميل في القطاع.